في كل جلسة مع الأهل والأصدقاء، يُطرح السؤال التقليدي: ماذا تعمل؟ ثم تتسع الأعين دهشةً وتساؤلًا حين أُجيب: مدون ومترجم مستقل. وما إن أشرح طبيعة عملي باختصار، حتى يصبح السؤال التالي محور الحديث:
هل تنصحني بترك وظيفتي والعمل مثلك كمستقل؟
إن كنت أحد من سألني (وأشك في ذلك، لأن علاقاتي محدودة للغاية)، أو كنت تطرح على نفسك ذات السؤال، فهذه التدوينة لك.
اليوم، سأضع أمامك -عزيزي القارئ- جميع إيجابيات وسلبيات العمل الحرّ وفقًا لتجربتي الشخصية التي تمتد لنحو 5 سنوات، فإذا كنت تفكر في أن تصبح مستقلاً، فإليك كل ما تحتاج إلى معرفته.
الدخل المتأرجح
رغم التوصيات المنتشرة في كل مقالة عن ضرورة امتلاك (احتياطي نقدي) يكفيك للأشهر الست القادمة، إلا أنني انتقلت للعمل الحرّ فجأة دون أن أدخر قرشًا!
آمنت أن عميلي (الثري) لن يتخلى عنيّ، وسيمدني بالمشاريع الدسمة مدى الحياة. وكم كنت مخطئًا.
فمع نهاية الشهر، وجدته يشكرني على حصيلة المشروع الرائع الذي جمعنا، متمنيًا أن نلتقِ في المستقبل القريب.
عمّا تتحدث يا رجل؟! ألا يُفترض بمشروعك أن يستمر؟
وهنا، انتبه لحقيقة أن أجري الأخير هو كل ما أملكه!
من البديهي أنني عشت أيامًا سيئة بسبب هذا التصرف، ولست استثناءً. فجميع المستقلين يعيشون أشهرًا من الرفاه المادي تعقبها أشهر لا يجدون فيها قوت يومهم. يعود السبب في ذلك لطبيعة سوق العمل الحرّ المختلفة واعتمادها على مهارة المستقل في تسويق نفسه بالدرجة الأولى. على سبيل المثال، في الأسواق التقليدية، يعتمد العميل على (قوة العلامة التجارية) ومراجعات العملاء السابقين في اتخاذ قرار الشراء. بينما يُضاف لما سبق -في سوق العمل الحرّ قدرة المستقل على إقناع العميل بإحترافية خدماته وتلبيتها متطلبات الأخير.
شِيك على بياض
أو بعبارة أخرى: إمكانية كسب غير محدودة.
عندما تعمل كمستقل، لا تحصل على راتب. بدلاً من ذلك، لديك القدرة على كسب المال الذي تريده اعتمادًا على الوقت والجهد اللذين أنت مستعد لبذلهما. تنوع عملائك والمناطق الجغرافية التي ينتمون إليها، إضافة لتفاوت ملآتهم المالية، يعني محيطًا من الفرص!
فكثيرًا ما أستيقظ وأتصفح (منجم الفرص = صندوق بريد الوارد) لأجد رسالة كهذه!
هذا لا يحدث في الوظيفة التقليدية، حيث تجد نفسك مقتصرًا على الراتب الهزيل الذي ستتلقاه نهاية كل شهر، وذلك بغض النظر عن الجهد/الوقت الذي بذلته لتأدية مهامك الوظيفية.
انتقِ عميلك من السوق
ما جعلني انتقل إلى العمل الحرّ لا الخاص هو أن بمقدوري اختيار عملائي بنفسي، فلو كنت أمتلك متجرًا للألبسة مثلًا، لكان لزامًا عليّ تحمّل فظاظة بعض العملاء وبابتسامة مصطنعة على وجهي أيضًا.
أما بصفتي مستقلاً، فأنا في وضع أفضل بكثير لرفض المشاريع التي لدي اعتراضات عليها. يمكنني اختيار عدم الشراكة مع صاحب مشروع لا أحبه. المستقل هو أكثر الأشخاص صدقًا مع نفسه ومع العملاء.
المدهش في الأمر أن حديثنا السابق عن (فرادة سوق العمل الحرّ) ينطبق على العميل نفسه، فإن كان يتوجب على المستقل إقناع عميله المحتمل بالعمل معه، فكذلك يتوجب على العميل إقناع المستقل المحترف بالعمل معه، وقد يتطلب منه ذلك: رفع ميزانية المشروع أو تمديد فترة التسليم (وربما كلاهما!).
اعمل وقتما/حيثما تُحب
حتى لو ذهبت في رحلة حول العالم في 80 يومًا، فلن تجد شخصًا مزاجيًا أكثر منيّ. أصحو أحيانًا بمزاجٍ متعكر بسبب ليلة سيئة، فلا أطيق لمس لوحة المفاتيح. وربما يأتي مساء اليوم ذاته فتجدني أقاوم النعاس باحثًا عن ساعة عملٍ إضافية، ومستمتعًا بكل لحظة!
هذا لا يحدث حين تعمل في مكتبٍ تقليدي، حيث تجد نفسك مجبرًا على تقديم أفضل ما لديك خلال ساعات العمل الرسمية، وذلك بغض النظر عن حالتك المزاجية، أو قدرتك البدنية/النفسية. لا يعني هذا أنني لم أكن مضطرًا للعمل -حتى أوقاتٍ متأخرة- أملًا في اللحاق بموعد تسليم نهائي. لكن يبقى هذا استثناء لا القاعدة.
تصبح الإجازات أسطورة قديمة
- متى سنذهب في رحلة؟
- حين انتهي من هذا المشروع.
يدور هذا الحوار -بيني وبين زوجتي- مرةً كل أسبوع. هي تؤمن أن من حقّها عليّ كزوج أن تستأثر بيّ ليومٍ كامل (كأي زوجين سعيدين)، في حين أشعر أنني كلما عملت أكثر، حصلت على مالٍ أكثر يُتيح ليّ إجازة أطول، ثم تمرّ الأيام فلا تأتي تلك الإجازة!
وحتى حين نخرج للغداء أو العشاء، يبقى عقلي مشغولًا بالمشروع الذي تركته -وحيدًا- في المنزل. لأكون صريحًا معك، كثيرًا ما أحسد أصدقائي الموظفين حين يتعلق الأمر بقدرتهم على نسيان كل ما يتعلق بالعمل بعد انتهاء دوامهم الرسمي!
أنت مدير نفسك
إن كنت عاجزًا عن تحمّل عميلٍ فظّ، فكيف بمديرٍ فظ؟ للأسف، لا يتقن بعض المدراء التعامل مع السلطة التي يمنحها إياهم موقعهم، لذا، يميلون غالبًا لتحويل حياتك -كموظف لديهم- إلى جحيم لا ينتهي!
كمستقل، لن تقيّدك سلطة أحد، يُخطئ البعض في الأعتقاد بأن للمستقل (ألف) مدير، ويقصدون بهذا أصحاب المشاريع التي يعمل عليها. لكن الحقيقة أن مفهوم المدير في الوظيفة التقليدية يختلف كليًا عنه في العمل المستقل.
ففي الأخير، أنت لست مُضطرًا للانصياع إلى أوامر لا تفهم المغزى منها، وتساعدك على ذلك طبيعة العمل الحرّ المرنة، حيث يتفهم صاحب العميل أن خبرتك في المجال ربما تفوق خبرته، مما يجعل كل نقطة في المشروع مطروحةً للنقاش عند اختلاف وجهات النظر.
أنت مدير نفسك (بالمعنى السلبي هذه المرة!)
حين كنت أعمل ضمن مكتب ، إن جائني عميل غاضب، كنت أُحيله إلى المدير فورًا، ليتولى هو مواجهته بنفسه.
لا يمكنك تخيّل عدد النزاعات التي خضتها ضد عملاء غاضبين (نعم، لم يكن جميع العملاء راضون تمامًا عن عملي!) هذه المرة كنت أنا في صف المواجهة الأول. لا أنكر لجوئي -في البدايات- لخيار (الحظر) عندما تتعقد الأمور، لكن ذلك كلّفني عملاء جيدين كثر.
في العمل الحرّ، أنت مُجبر على التعامل مع مختلف العملاء -باختلاف أفكارهم وأمزجتهم- بلطف، وإلا هدمت علامتك التجارية الشخصية في غمضة عين.
انتهت أيام الوقوف تحت المطر
قد يبدو منظرك وأنت تحمل حقيبتك بيد، وصحيفة تغطي بها رأسك باليد الأخرى مشهدًا من فيلم رومانسي حزين. لكنه واقع جميع العاملين بوظائف تقليدية حين يقفون تحت المطر/أشعة الشمس الحارقة منتظرين وسيلة نقلٍ تقلهم من/إلى منازلهم [وفي زمن الجائحة، يغدو الأمر أصعب].
أكتب هذه العبارات من شرفة منزلي التي تطلّ على موقف الحافلات، راجيًا الله أن يكون في عون الجميع.
وبدأت أيام البقاء تحت رحمة الدموع
هل اختبرت شعور احتمال بكاء طفل طيلة يومٍ كامل؟ وأنا أيضًا.. إنما طيلة الوقت. حسنًا، هذه النقطة تستحق مقالة كاملة (واو! هناك واحدة بالفعل).
حين تعمل كمستقل، تصبح تحت رحمة سيل طلبات كل مَن في المنزل (ففي نظرهم، أنت لا تفعل شيئًا!)، وإن تذرعت بأنك مشغول، قابلوك بالمزيد من الإلحاح الذي سرعان ما يتحول إلى ترجٍ فبكاء.
المزيد من الانتاجية
واحدة من أكثر النقاط التي كنت أكرهها في مكان عملي القديم، هي أن يأتي أحدهم ليخوض معي حديثًا عن حالة الطقس السيئة، أو عن ارتفاع الأسعار الجنوني.. وذلك أثناء تركيزي على المهمة بين يديّ، ثم يمضي اليوم بطوله دون أن أُنجز شيئًا: فلا أنا وجدت حلًا للغلاء، ولا وجدت حلًا للمعضلة المحاسباتية التي واجهتني!
أما الآن، فأنا أستمتع بلحظات الهدوء التي تعقب ذهاب أطفالي إلى مدارسهم، وخلو المنزل من أي ضوضاء أو مقاطعات.
الشعور بالوحدة
حتى لو لم نكن دائمًا نحب زملائنا في العمل، إنما كنا قادرين -بفضلهم- على اقتناص بعض لحظات التفاعل الإنساني.
كنت انظر إلى الجملة السابقة باستخفاف، فأنا شخص انطوائي، ولا يعنيني كثيرًا ما يسمّونه (لحظات التفاعل الإنساني)، على العكس تمامًا.. كنت أفضّل، في ظل عالم علاقات قائم على المصالح، ألا أتواصل مع أحد.
لكن أحيانًا..أقول أحيانًا.. أحتاج لمن أُحادثه وجهًا لوجه، يحدث ذلك -غالبًا- حين أتعرض لصدمة من عميلٍ غاضب، أو أفشل في الحصول على مشروع [رغم أنني أفضل المُرشحين].
الخلاصة
شخصيًا، لا أستطيع أن أرى نفسي أغادر الحياة المستقلة. ومع ذلك ، فإن لها سلبيات تستحق الأخذ بالحُسبان.
لن أجرؤ على أخذ قرار نيابة عنك! لكني أريد التأكد من أنك تدرك أن هناك جوانب مشرقة لكل جانب سلبي. عليك أن تحدد ما ترغب في مقايضته حتى تتمكن أنت أيضًا من الاستمتاع بحرية العمل الحر.
المصادر:
- تجربتي الشخصية في المرتبة #1
- Pros and Cons of Freelancing
التعليقات ( 2 )